فصل: ذكر حال ابن فولاذ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وفاة باديس وولاية ابنه المعز:

لما كان يوم الثلاثاء، سلخ ذي القعدة سنة ست وأربعمائة، أمر باديس بعرض العساكر، فرأى ما سره، وركب آخر النهار، ونزل معه جماعة من أصحابه، ففارقوه إلى خيامهم، فلما كان نصف الليل توفي.
وخرج الخادم في الوقت إلى حبيب بن أبي سعيد، وباديس بن أبي حمامة، وأيوب بن يطوفت، وهم أكبر قواده، فأعلمهم بوفاته.
وكان بين حبيب وباديس بن حمادة عداوة، فخرج حبيب مسرعاً إلى باديس وخرج باديس إليه أيضاً، فالتقيا في الطريق، فقال كل واحد منهما لصاحبه: قد عرفت الذي بيننا، والأولى أن نتفق على إصلاح هذا الخلل، فإذا انقضى رجعنا إلى المنافسة. فاجتمعا مع أيوب وقالوا: إن العدو قريب منا، وصاحبنا بعيد عنا، ومتى لم نقدم رأساً نرجع إليه في أمورنا لم نأمن العدو، ونحن نعلم ميل صنهاجة إلى المعز، وغيرهم إلى كرامت بن المنصور أخي باديس، فاجتمعوا على تولية كرامت ظاهراً، فإذا وصلوا إلى موضع الأمن، ولوا المعز بن باديس، وينقطع الشر.
فأحضروا كرامت وبايعوه، وولوه في الحال، وأصبحوا وليس عند أحد من العسكر خبر من ذلك، وعزموا أن يقولوا للناس بكرة إن باديس قد شرب دواء، فلما أصبحوا أغلق أهل مدينة المحمدية. أبوابها، وكأنما نودي فيهم بموت باديس، فشاع الخبر، وخاف الناس خوفاً عظيماً، واضطربوا لموته، وأظهروا ولاية كرامت، فلما رأى ذلك عبيد باديس ومن معهم أنكروه، فخلا حبيب بأكابرهم، وعرفهم الحال فسكنوا.
ومضى كرامت إلى مدينة أشير ليجمع صنهاجة، وتلكاتة، وغيرهم وأعطوهم من الخزائن مائة ألف دينار.
وأما المعز فإنه كان عمره ثماني سنين وستة أشهر وأياماً تقريباً، لأن مولده كان في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ولما وصل إليه الخبر بموت أبيه أجلسه من عنده للعزاء، ثم ركب في الموكب، وبايعه الناس، فكان يركب كل يوم، ويطعم الناس كل يوم بين يديه.
وأما العساكر فإنهم رحلوا من مدينة المحمدية إلى المعز، وجعلوا باديس في تابوت بين يدي العسكر، والطبول، والبنود على رأسه، والعساكر تتبعه ميمنة وميسرة، وكان وصولهم إلى المنصورية رابع المحرم سنة سبع وأربعمائة، ووصلوا إلى المهدية، والمعز بها، ثمان المحرم، فركب المعز، ووقف حبيب يعلمه بهم، ويذكر له أسماءهم، ويعرفه بقوادهم وأكابرهم، فرحل المعز من المهدية، فوصل إلى المنصورية منتصف المحرم.
وهذا المعز أول من حمل الناس بإفريقية على مذهب مالك، وكان الأغلب عليهم مذهب أبي حنيفة.
وأما كرامت فإنه لما وصل إلى مدينة أشير اجتمع عليه قبائل صنهاجة وغيرهم، فأتاه حماد في ألف وخمسمائة فارس، فتقدم إليه كرامت بسبعة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فرجع بعض أصحاب كرامت إلى بيت المال فانتهبوه وهربوا، فتمت الهزيمة عليه وعلى أصحابه، ووصل إلى مدينة أشير فأشار عليه قاضيها وأعيان أهلها بالمقام، ومنع حماد عنها، ففعل، ونازلهم حماد، وطلب كرامت ليجتمع به، فخرج إليه، فأعطاه مالاً، وأذن له في المسير إلى المعز، وقتل حماد من أهل أشير كثيراً حيث أشاروا على كرامت بحفظ البلد ومنع حماد منه؛ ووصل كرامت إلى المعز في المحرم هذه السنة، فأكرمه وأحسن إليه.
وفي آخر ذي الحجة سير الحاكم الخلع من مصر إلى المعز، ولقبه شرف الدولة، ولم يذكر ما كان منه إلى الشيعة من القتل والإحراق، وسار المعز إلى حماد لثمان بقين من صفر سنة ثمان وأربعمائة بالعساكر لمنعه عن البلاد، فإنه كان يحاصر باغاية وغيرها، فلما قاربه رحل عن باغاية، والتقوا آخر ربيع الأول، فاقتتلوا، فما كان إلا ساعة حتى انهزم حماد وأصحابه، ووضع أصحاب المعز فيهم السيف، وغنموا ما لهم من عدد ومال وغير ذلك، فنادى المعز: من أتى برأس فله أربعة دنانير؛ فأتي بشيء كثير، وأسر إبراهيم أخو حماد، ونجا حماد وقد أصابته جراحة، وتفرق عنه أصحابه، ورجع المعز، وورد رسول من حماد إليه يعتذر، ويقر بالخطأ ويسأل العفو، فأجابه المعز: إن كنت على ما قلته فأرسل ولدك القائد إلينا.
واستعمل المعز على جميع العرب المجاورة لإبراهيم عمه كرامت، فعاد جواب حماد أنه إذا وصله كتاب أخيه إبراهيم بالعلامات التي بينهم، أنه قد أخذ له عهد المعز، بعث ولده القائد، أو حضر هو بنفسه. فحضر إبراهيم وأخذ العهود على المعز وأرسل إليه يعرفه ذلك ويشكر المعز على إحسانه إليه، ووصل المعز إلى قصره آخر جمادى الأولى، ولما وصل أطلق عمه إبراهيم، وخلع عليه، وأعطاه الأموال والدواب وجميع ما يحتاج إليه، فلما سمع حماد ذلك أرسل ولده القائد إلى المعز، وكان وصوله للنصف من شعبان، فأكرمه وأعطاه شيئاً كثيراً، وأقطعه المسيلة وطبنة وغيرهما، وعاد إلى أبيه في شهر رمضان، ورضي الصلح، وحلف عليه، واستقرت الأمور بينهما، وتصاهرا، وزوج المعز أخته بعبدالله بن حماد، فازدادوا اتفاقاً وأمناً.
وكان بإفريقية والغرب غلاء بسبب الجراد، واختلاف الملوك، ولما استقر الصلح والاتفاق سير المعز الجيوش إلى القبائل من البربر وغيرهم، فإن الحروب بينهم كانت، بسبب الاختلاف، كثيرة، والدماء مسفوكة، فلما رأوا عساكر السلطان رجعوا إلى السكون وترك الحرب، ومن أبى قوتل، فقتل المفسدون، وأصلح ما بين القبائل.
ووصل من جزيرة الأندلس زاوي بن زيري بن مناد، عم أبي المعز، وأهله وولده وحشمه، وكان قد أقام بالأندلس مدة طويلة، وقد ذكرنا سبب دخوله الأندلس، وملك بالأندلس غرناطة وقاسى حروباً كثيرة، ووصل معه من الأموال والعدد والجواهر شيء كثير لا يحد، فأكرمهم المعز، وحمل لهم شيئاً عظيماً، وإقامات زائدة وأقاموا عنده.
كان ينبغي أن يكتب وفاة باديس وما بعده سنة سبع وأربعمائة، وإنما أتبعنا بعض أخبارهم بعضاً.

.ذكر غزوة محمود إلى الهند:

في هذه السنة غزا محمود بن سبكتكين الهند على عادته، فضل أدلاؤه الطريق، ووقع هو وعسكره في مياه فاضت من البحر، فغرق كثير ممن معه، وخاض الماء بنفسه أياماً حتى تخلص وعاد إلى خراسان.

.ذكر قتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان:

وفيها قبض سلطان الدولة على نائبه بالعراق ووزيره فخر الملك أبي غالب، وقتل سلخ ربيع الأول، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وأحد عشر شهراً، وكان نظره بالعراق خمس سنين وأربعة شهور واثني عشر يوماً، وكان كافياً، حسن الولاية والآثار، ووجد له ألف ألف دينار عيناً سوى ما نهب، وسوى الأعراض، وكان قبضه بالأهواز، ولما مات نقل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن هناك.
قيل: كان ابن علمكار، وهو من كبار قوادهم، قد قتل إنساناً ببغداد، فكانت زوجته تكتب إلى فخر الملك أبي غالب تتظلم منه ولا يلتفت إليها، فلقيته يوماً وقالت له: تلك الرقاع التي كنت أكتبها إليك صرت أكتبها إلى الله تعالى. فلم يمض على ذلك غير قليل حتى قبض هو وابن علمكار، فقال له فخر الملك: قد برز جواب رقاع تلك المرأة. ولما قبض فخر الملك استوزر سلطان الدولة أبا محمد الحسن بن سهلان، فلقب عميد أصحابه الجيوش، وكان مولده برامهرمز في شعبان سنة إحدى وستين وثلاثمائة.

.ذكر قتل طاهر بن هلال بن بدر:

في هذه السنة أطلق شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه طاهر بن هلال بن بدر، واستحلفه على الطاعة له، واجتمع معه طوائف فقوي بهم، وحارب أبا الشوك فهزمه، وقتل سعدي أخو أبي الشوك، ثم انهزم أبو الشوك منه مرةً ثانيةً، ومضى منهزماً إلى حلوان، وبذل له أبو الحسن بن مزيد الأسدي المعاونة، فلم يكن فيه معاودة الحرب.
وأقام طاهر بالنهروان، وصالح أبا الشوك، وتزوج أخته، فلما أمنه طاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدي، وحمله أصحابه فدفنوه بمشهد باب التبن.

.ذكر عدة حوادث:

فيها توفي الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر أبو الحسن، صاحب الديوان المشهور، وشهد جنازته الناس كافة، ولم يشهدها أخوه لأنه لم يستطع أن ينظر إلى جنازته، فأقام بالمشهد إلى أن أعاده الوزير فخر الملك إلى داره، ورثاه كثير من الشعراء منهم أخوه المرتضى، فقال:
يا للرجال لفجعةٍ جذمت يدي، ** ووددتها ذهبت لعيّ براسي

ما زلت آبى وردها، حتّى أتت، ** فحسوتها في بعض ما أنا حاسي

ومطلتها زمناً، فلمّا صمّمت ** لم يثنها مطلي، وطول مكاسي

لا تنكروا من فيض دمعي عبرةً، ** فالدمع خير مساعدٍ ومؤاس

واهاً لعمرك من قصيرٍ طاهرٍ، ** ولربّ عمرٍ طال بالأرجاس

وفيها توفي أبو طالب أحمد بن بكر العبدي النحوي، مصنف شرح الإيضاح؛ وأبو أحمد عبد السلام بن أبي مسلم الفرضي؛ والإمام أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الأسفراييني إمام أصحاب الشافعي، وكان يحضر دراسته أربعمائة متفقه، وكان يدرس بمسجد عبدالله بن المبارك بقطيعة الفقهاء، وكان عمره إحدى وستين سنة وأشهراً.
وفيها توفي أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن، والد عميد الجيوش، بشيراز، وكان عمره مائة وخمس سنين؛ وفيها توفي شهاب الدولة أبو درع رافع ابن محمد بن مقرن، وله شعر حسن،
وما زلت أبكي في الديار تأسّفاً ** لبين خليلٍ، أو فراق حبيب

فلما عرفت الرّبع لا شكّ أنّه ** هو الرّبع فاضت مقلتي بغروب

وجرّبت دهري ناسياً، فوجدته ** أخا غيرٍ لا تنقضي وخطوب

وعاشرت أبناء الزمان، فلم أجد ** من الناس خداناً حافظاً لمغيب

ولم يبق منهم حافظٌ لذمامه، ** ولا ناصرٌ يرعى جوار قريب

وفيها توفي الشار أبو نصر، الذي كان صاحب غرشستان من خراسان، في قبض يمين الدولة، وقد ذكرنا سبب ذلك.
وفيها، في صفر، قلد الشريف المرتضى أبو القاسم أخو الرضي نقابة العلويين، والحج، والمظالم، بعد موت أخيه الرضي.
وفيها وقعت فتنة ببغداد بين أهل الكرخ وبين أهل باب الشعير، ونهبوا القلائين، فأنكر فخر الملك على أهل الكرخ، ومنعوا من النوح يوم عاشوراء، ومن تعليق المسوح.
وفيها وقع بالبصرة وما جاورها وباء شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد.
وفيها، في حزيران، جاء مطر شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد. ثم دخلت:

.سنة سبع وأربعمائة:

.ذكر قتل خوارزمشاه وملك يمين الدولة خوارزم وتسليمها إلى التونتاش:

في هذه السنة قتل خوارزمشاه أبو العباس مأمون بن مأمون وملك يمين الدولة خوارزم.
وسبب ذلك أن أبا العباس كان قد ملك خوارزم والجرجانية، كما ذكرناه، وخطب إلى يمين الدولة، فزوجه أخته. ثم إن يمين الدولة أرسل إليه يطلب أن يخطب له على منابر بلاده، فأجابه إلى ذلك، وأحضر أمراء دولته واستشارهم في ذلك، فأظهروا الامتناع، ونهوه عنه، وتهددوه بالقتل إن فعله فعاد الرسول وحكى ليمين الدولة ما شاهده.
ثم إن الأمراء خافوه حيث ردوا أمره، فقتلوه غيلة، ولم يعلم قاتله، وأجلسوا مكانه أحد أولاده، وعملوا أن يمين الدولة يسوءه ذلك، وربما طالبهم بثأره، فتعاهدوا على مقاتلته ومقارعته.
واتصل الخبر بيمين الدولة، فجمع العساكر وسار نحوهم، فلما قاربهم جمعهم صاحب جيشهم، ويعرف بالبتكين البخاري وأمرهم بالخروج إلى لقاء مقدمة يمين الدولة والإيقاع بمن فيها من الأجناد، فساروا معه وقاتلوا مقدمة يمين الدولة، واشتد القتال بينهم.
واتصل الخبر بيمين الدولة، فتقدم نحوهم في سائر جيوشه. فلحقهم وهم في الحرب، فثبت الخوارزمية إلى أن انتصف النهار، وأحسنوا القتال، ثم إنهم انهزموا، وركبهم أصحاب يمين الدولة يقتلون ويأسرون، ولم يسلم إلا القليل.
ثم إن البتكين ركب سفينة لينجو فيها، فجرى بينه وبين من معه منافرة، فقاموا عليه وأوثقوه، وردوا السفينة إلى ناحية يمين الدولة، وسلموه إليه، فأخذه وسائر القواد المأسورين معه، وصلبهم عند قبر أبي العباس خوارزمشاه، وأخذ الباقين من الأسرى فسيرهم إلى غزنة فوجاً بعد فوج، فلما اجتمعوا بها أفرج عنهم، وأجرى لهم الأرزاق، وسيرهم إلى أطراف بلاده من أرض الهند يحمونها من الأعداء، ويحفظونها من أهل الفساد، وأخذ خوارزم واستناب بها حاجبه التونتاش.

.ذكر غزوة قشمير وقنوج وغيرهما:

في هذه السنة غزا يمين الدولة بلاد الهند، بعد فراغه من خوارزم، فسار منها إلى غزنة ومنها إلى الهند عازماً على غزو قشمير، إذ كان قد استولى على بلاد الهند ما بينه وبين قشمير؛ وأتاه من المتطوعة نحو عشرين ألف مقاتل من ما وراء النهر، وغيره من البلاد، وسار إليها من غزنة ثلاثة أشهر سيراً دائماً، وعبر نهر سيحون، وجيلوم، وهما نهران عميقان شديدا الجرية، فوطئ أرض الهند، وأتاه رسل ملوكها بالطاعة وبذل الإتاوة.
فلما بلغ درب قشمير أتاه صاحبها وأسلم على يده، وسار بين يديه إلى مقصده، فبلغ ماء جون في العشرين من رجب، وفتح ما حولها من الولايات الفسيحة والحصون المنيعة، حتى بلغ حصن هودت، وهو آخر ملوك الهند، فنظر هودب من أعلى حصنه، فرأى من العساكر ما هاله ورعبه، وعلم أنه لا ينجيه إلا الإسلام، فخرج في نحو عشرة آلاف ينادون بكلمة الإخلاص، طلباً للخلاص، فقبله يمين الدولة، وسار عنه إلى قلعة كلجند، وهو من أعيان الهند وشياطينهم، وكان على طريقه غياض ملتفة لا يقدر السالك على قطعها إلا بمشقة، فسير كلجند عساكره وفيوله إلى أطراف تلك الغياض يمنعون من سلوكها، فترك يمين الدولة عليهم من يقاتلهم، وسلك طريقاً مختصرةً إلى الحصن، فلم يشعروا به إلا وهو معهم، فقاتلهم قتالاً شديداً، فلم يطيقوا الصبر على حد السيوف، فانهزموا، وأخذهم السيف من خلفهم، ولقوا نهراً عميقاً بين أيديهم، فاقتحموه، فغرق أكثرهم وكان القتلى والغرقى قريباً من خمسين ألفاً، وعمد كلجند إلى زوجته فقتلها ثم قتل نفسه بعدها، وغنم المسلمون أمواله وملكوا حصونه.
ثم سار نحو بيت متعبد لهم، وهو مهرة الهند، وهو من أحصن الأبنية على نهر، ولهم به من الأصنام كثير، منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر، وكان فيها من الذهب ستمائة ألف وتسعون ألفاً وثلاثمائة مثقال، وكان بها من الأصنام المصوغة من النقرة نحو مائتي صنم، فأخذ يمين الدولة ذلك جميعه، وأحرق الباقي، وسار نحو قنوج، وصاحبها راجيال، فوصل إليها في شعبان، فرأى صاحبها قد فارقها، وعبر الماء المسمى كنك، وهو ماء شريف عندهم يرون أنه من الجنة، وأن من غرق نفسه فيه طهر من الآثام، فأخذها يمين الدولة، وأخذ قلاعها وأعمالها، وهي سبع على الماء المذكور، وفيها قريب من عشرة آلاف بيت صنم، يذكرون أنها عملت من مائتي ألف سنة إلى ثلاثمائة ألف كذباً منهم وزوراً، ولما فتحها أباحها عسكره.
ثم سار إلى قلعة البراهمة، فقاتلوه وثبتوا، فلما عضهم السلاح علموا أنهم لا طاقة لهم، فاستسلموا للسيف فقتلوا، ولم ينج منهم إلا الشريد.
ثم سار نحو قلعة آسي، وصاحبها جند بال، فلما قاربها هرب جند بال، وأخذ يمين الدولة حصنه وما فيه، ثم سار إلى قلعة شروة، وصاحبها جندرآي، فلما قاربه نقل ماله وفيوله نحو جبال هناك منيعة يحتمي بها، وعمي خبره فلم يدر أين هو، فنازل يمين الدولة حصنه فافتتحه وغنم ما فيه، وسار في طلب جندرآي جريدة، وقد بلغه خبره، فلحق به في آخر شعبان، فقاتله، فقتل أكثر جند جندرآي، وأسر كثيراً منهم، وغنم ما معه من مالٍ وفيل، وهرب جندرآي في نفر من أصحابه فنجا.
وكان السبي في هذه الغزوة كثيراً حتى إن أحدهم كان يباع بأقل من عشرة دراهم، ثم عاد إلى غزنة ظافراً؛ ولما عاد من هذه الغزوة أمر ببناء جامع غزنة، فبني بناء لم يسمع بمثله، ووسع فيه، وكان جامعها القديم صغيراً، وأنفق ما غنمه في هذه الغزاة في بنائه.

.ذكر حال ابن فولاذ:

في هذه السنة عظمت شوكة ابن فولاذ وكبر شأنه.
وكان ابتداء أمره أنه كان وضيعاً، فنجم في دولة بني بويه، وعلا صيته، وارتفع قدره، واجتمع إليه الرجال، فلما كانالآن طلب من مجد الدولة ووالدته أن يقطعاه قزوين لتكون له ولمن معه من الرجال، فلم يفعلا، واعتذرا إليه، فقصد أطراف ولاية الري، وأظهر العصيان، وجعل يفسد ويغير، ويقطع السبيل، وملك ما يليه من القرى، فعجزا عنه، فاستعانا بأصبهبذ المقيم بفريم، فأتاهما في رجال الجيل، وجرى بينهم وبين ابن فولاذ عدة حروب، وجرح ابن فولاذ، وولى منهزماً حتى بلغ الدامغان، فأقام حتى عاد أصحابه إليه ورجع أصبهبذ إلى بلاده.
وكتب ابن فولاذ إلى منوجهر بن قابوس يطلب أن ينفذ له عسكراً ليملك البلاد، ويقيم له الخطبة فيها، ويحمل إليه المال، فأنفذ له ألفي رجل، فسار بهم حتى نزل بظاهر الري، وأعاد الإغارة، ومنع الميرة عنها، فضاقت الأقوات بها، فاضطر مجد الدولة ووالدته إلى مداراته، وإعطائه ما يلتمسه، فاستقر بينهم أن يسلما إليه مدينة أصبهان، فسار إليها وأعاد عسكر منوجهر إليه، وزال الفساد، وعاد إلى طاعة مجد الدولة.

.ذكر ابتداء الدولة العلوية بالأندلس وقتل سليمان:

وفي هذه السنة ولي الأندلس علي بن حمود بن أبى العيش بن ميمون بن أحمد بن عي بن عبدالله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبدالله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وقيل في نسبه غير ذلك مع اتفاق على صحة نسبه إلى أمير المؤمنين علي، عيه السلام.
وكان سبب ذلك أن الفتى خيران العامري لم يكن راضياً بولاية سليمان بن الحاكم الأموي لأنه كان من أصحاب المؤيد على ما ذكرناه قبل، فلما ملك سليمان قرطبة انهزم خيران في جماعة كثيرة من الفتيان العامريين، فتبعهم البربر وواقعهم، فاشتد القتال بينهم، وجرح خيران عدة جراحات، وترك على أنه ميت، فلما فارقوه قام يمشي، فأخذه رجل من البربر إلى داره بقرطبة وعالجه فبرأ، وأعطاه مالاً، وخرج منها سراً إلى شرق الأندلس، فكثر جمعه، وقويت نفسه، وقاتل من هناك من البربر، وملك المرية، واجتمع إليه الأجناد، وأزال البربر عن البلاد المجاورة له، فغلظ أمره وعظم شأنه.
وكان علي بن حمود بمدينة سبتة، بينه وبين الأندلس عدوة المجاز مالكاً لها، وكان أخوه القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء مستولياً عليها، وبينهما المجاز، وسبب ملكهما أنهما كانا من جملة أصحاب سليمان بن الحاكم، فقودهما على المغاربة، ثم ولاهما هذه البلاد، وكان خيران يميل إلى دولة المؤيد، ويرغب فيها، ويخطب له على منابر بلاده التي استولى عليها لأنه كان يظن حياته حيث فقد من القصر، فحدث لعلي بن حمود طمع في ملك الأندلس لما رأى من الاختلاف، فكتب إلى خيران يذكر له أن المؤيد كان كتب له بولاية العهد والأخذ بثأره إن هو قتل، فدعا لعلي بن حمود بولاية العهد.
وكان خيران يكاتب الناس، ويأمرهم بالخروج على سليمان. فوافقه جماعة منهم عامر بن فتوح وزير المؤيد، وهو بمالقة، وكاتبوا علي بن حمود، وهو بسبتة، ليعبر إليهم ليقوموا معه ويسيروا إلى قرطبة، فعبر إلى مالقة في سنة خمس وأربعمائة، فخرج عنها عامر بن فتوح، وسلمها إليه، ودعا له بولاية العهد وسار خيران ومن أجابه إليه، فاجتمعوا بالمنكب، وهي ما بين المرية ومالقة، سنة ست وأربعمائة، وقرروا ما يفعلونه، وعادوا يتجهزون لقصد قرطبة، فتجهزوا وجمعوا من وافقهم، وساروا إلى قرطبة وبايعوا علياً على طاعة المؤيد الأموي.
فلما بلغوا غرناطة وافقهم أميرها، وسار معهم إلى قرطبة، فخرج سليمان والبربر إليهم، فالتقوا واقتتلوا على عشرة فراسخ من قرطبة، ونشب القتال بينهم، فانهزم سليمان والبربر، وقتل منهم خلق كثير، وأخذ سليمان أسيراً، فحمل إلى علي بن حمد ومعه أخوه وأبوه الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ودخل علي بن حمود قرطبة في المحرم سنة سبع ودخل خيران وغيره إلى القصر طمعاً في أن يجدوا المؤيد حياً، فلم يجدوه، ورأوا شخصاً مدفوناً فنبشوه، وجمعوا له الناس، وأحضروا بعض فتيانه الذين رباهم وعرضوه عليه، ففتشه، وفتش أسنانه لأنه كان له سن سوداء كان يعرفها ذلك الفتى، فأجمع هو وغيره على أنه المؤيد خوفاً على أنفسهم من علي، فأخبروا خيران أنه المؤيد، وكان ذلك الفتى يعلم أن المؤيد حي، فأخذ علي بن حمود سليمان وقتله سابع المحرم سنة سبع، وقتل أباه وأخاه.
ولما حضر أبوه بين يدي علي بن حمود قال له: يا شيخ قتلتم المؤيد؛ فقال: والله ما قتلناه، وإنه لحي؛ فحينئذ أسرع في قتله، وكان شيخاً صالحاً منقبضاً لم يتدنس بشيء من أحوال ابنه. واستولى علي بن حمود على قرطبة، ودعا الناس إلى بيعته، فبويع، واجتمع له الملك، ولقب المتوكل على الله.
ثم إن خيران أظهر الخلاف عليه لأشياء منها أنه كان طامعاً أن يجد المؤيد فلم يجده، ومنها أنه نقل إليه أن علياً يريد قتله فخرج عن قرطبة وأظهر الخلاف عليه.

.ذكر ظهور عبد الرحمن الأموي:

لما خالف خيران علياً أرسل يسأل عن بني أمية، فدل على عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان قد خرج من قرطبة مستخفياً، ونزل بجيان، وكان أصلح من بقي من بني أمية، فبايعه خيران وغيره، ولقبوه المرتضى، وراسل خيران منذر بن يحيى التجيبي أمير سرقسطة والثغر الأعلى، وراسل أهل شاطبة، وبلنسية، وطرطوشة، والبنت، فأجابوا كلهم إلى بيعته، والخلاف على علي بن حمود، فاتفق عليه أكثر الأندلس، واجتمعوا بموضع يعرف بالرياحين في الأضحى سنة ثمان وأربعمائة، ومعهم الفقهاء والشيوخ، وجعلوا الخلافة شورى، وأصفقوا على بيعته، وساروا معه إلى صنهاجة والنزول على غرناطة.
وأقبل المرتضى على أهل بلنسية، وشاطبة، وأظهر الجفاء لمنذر بن يحيى التجيبي، ولخيران، ولم يقبل عليهما، فندما على ما كان منهما، وسار حتى وصل إلى غرناطة، فوصل إليها، ونزل عليها، وقاتلوها أياماً قتالاً شديداً، فغلبهم أهل غرناطة، وأميرهم زاوي بن زيري الصنهاجي، وانهزم المرتضى وعسكره، واتبعتهم صنهاجة يقتلون ويأسرون، وقتل المرتضى في هذه الهزيمة وعمره أربعون سنة، وهو أصغر من أخيه هشام، وسار أخوه هشام إلى البنت، وأقام بها إلى أن خوطب بالخلافة، ولم يزل علي بن حمود بعد هذه الهزيمة يقصد بلاد خيران والعامريين مرة بعد أخرى.

.ذكر قتل علي بن حمود العلوي:

فلما كان في ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة تجهز علي بن حمود للمسير إلى جيان لقتال من بها من عسكر خيران، فلما كان الثامن والعشرون منه برزت العساكر إلى ظاهر قرطبة بالبنود والطبول ووقفوا ينتظرون خروجه، فدخل الحمام ومعه غلمانه، فقتلوه، فلما طال على الناس انتظاره بحثوا عن أمره، فدخلوا عليه، فرأوه مقتولاً، فعاد العسكر إلى البلد.
وكان لقبه المتوكل على الله، وقيل الناس لدين الله، وكان أسمر، أعين أكحل، خفيف الجسم، طويل القامة، حازماً، عازماً، عادلاً، حسن السيرة، وكان قد عزم على أن يعيد إلى أهل قرطبة أموالهم التي أخذها البربر، فلم تطل أيامه، وكان يحب المدح، ويجزر العطاء عليه.
ثم ولي بعده أخوه القاسم، وهو أكبر من علي بعدة أعوام، وكان عمر علي ثمانياً وأربعين سنة؛ بنوه يحيى، وإدريس، وأمه قرشية، وكنيته أبو الحسن، وكانت ولايته سنة وتسعة أشهر.